[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً معبراً للمؤمن في هذه الحياة، فقال:
((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد)) لقد اختلطت جذور الزرع في الأرض وتماسكت، فالريح- وإن أمالته- لا تطرحه ولا تكسره ولا تسقطه، وكذلك المؤمن فإن المصائب وإن آلمته واحزنته فإنها لا يمكن أن تهزمه أو تنال من إيمانه شيئاً، ذلك أن إيمانه بالله عاصمه من ذلك.
وهذه الدنيا مليئة بالحوادث والفواجع، والأمراض والقواصم، فبينما الإنسان يسعد بقرب عزيز أو حبيب إذا هو يفجع ويفاجأ بمرض يكدر حياته ويقضي على آماله، أو بضياع مال أو وظيفة تذهب معه طموحاته.
في هذه الدنيا منح ومحن، وآمال وآلام، فدوام الحال من المحال، والصفو يعقبه كدر!!هكذا الدنيا وهذه أحوالها، وليس للمؤمن الصادق فيها إلا الصبر، ((وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر))، وكان أمر المؤمن - من بين الناس- أمراً عجيباً، لأنه ((إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
أمرنا الله بالصبر، وجعله من أسباب العون والمعية الالهية فقال سبحانه (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) ثم أخبر مؤكداً ان الحياة محل الابتلاء بالخوف والجوع ونقص في الارزاق والأنفس والثمرات، واطلق البشرى للصابرين، وأخبر عن حالهم عند المصائب، وأثبت جزاءهم فقال: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ )).
فالصبر سبب بقاء العزيمة، ودوام البذل والعمل، وأفضل العدة الصبر على الشدة.
ونظراً لحاجتنا جميعاً إلى هذه الخصلة، وافتقارنا إليها، أذكر فيها بعشر وصايا تعين المسلم في الصبر على المصائب وهي:
اولاً: (إعداد النفس): على المسلم أن يهيئ نفسه للمصائب قبل وقوعها، وأن يدربها عليها قبل حدوثها، لأن الصبر عزيز ونفيس، وتحتاج النفس إلى تدريب.
على المسلم أن يتذكر دوماً وأبداً زوال الدنيا وسرعة الفناء، وأن ليس لمخلوق فيها بقاء، وقد مثل الرسول - حاله في الدنيا ((كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها)).
فلا تغتر -أيها المسلم- برخاء، ولا تتأمل أن تبقى الدنيا على حالها.
ثانياً: (الإيمان بالقضاء والقدر): من آمن بالقضاء والقدر، وعلم أن الدنيا دار ابتلاء وخطر، وأن القدر لا يرد ولا يؤجل اطمأنت نفسه، وهان أمره، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ((واعلم أن الامة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وكل الله بالرحم ملكاً، فيقول: أي رب نطفةً؟ أي رب علقةً؟ أي رب مضغةً؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: أي رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه)).
ثالثاً: (تذكر حال الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح): رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة لكل مسلم، كما قال تعالى ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ))، وفي تأمل حاله -عليه الصلاة والسلام- عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته كلها صبراً، وجهاداً، ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفية الصابرة خديجة، ثم ماتت بعض بناته، ومات ابنه ابراهيم، فلم يزد على أن قال -وقد دمعت عيناه-: ((إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون)) ومات الكثير من أصحابه الذين أحبهم وأحبوه، فما فتّ ذلك في عضده، ولا قلّل من عزيمته وصبره.
ومن تأمل أحوال السلف الصالح وجهادهم -رضي الله عنهم- فإنهم قد حازوا الصبر على خير وجوهه، تأملوا حال عروة بن الزبير -رحمه الله- وقد ابتلي في موضع واحد بقطع رجله مع موت ابنه، فلم يزد على أن قال: ((اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً، وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفاً واحداً، وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت فقد عافيت، ولئن أخذت فقد أبقيت)).
رابعاً: (استحضار سعة رحمة الله، وواسع فضله): المؤمن الصادق في إيمانه يحسن ظنه بربه، وقد قال الله كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا عند ظن عبدي بي)) فثقوا بسعة رحمة الله بكم، وإن اقداره خير في حقيقة أمرها، وقد قال عز وجل: ((وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)).
خامساً: (التأسي بغيرك من أهل المصائب): تأسوا بغيركم وتذكروا مصاباتهم، وانظروا إلى من هو أشد مصيبة منكم، فإن في ذلك ما يذهب الأسى، ويخفف الألم، وتذكروا أن ((من يتصبر يصبره الله))، ليتذكر الوالدان المفجوعان بابن لهما آباء لا يدرون شيئاً عن أبنائهم، فلا يعلمون: أهم أحياء فيرجونهم، أم أموات فينسونهم، وقد فقد يعقوب يوسف عليهما السلام ومكث على ذلك عقوداً من السنين، وبعد أن كبر وضعف فقد ابنا آخر، فلم يزد على أن قال في أول الأمر: ((فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون)) ثم في الحال الثاني: ((فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)).
سادساً: (تذكر أن المصائب من دلائل فضل الله تعالى): قال عليه الصلاة والسلام: ((من يرد الله به خيراً يصب منه)) وأخبر أن ((الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)).
سابعاً: (تذكر حسن الجزاء): ليتذكر كل منا حسن الجزاء ليخف حمل البلاء عليه، فإن الأجر على قدر المشقة، والنعيم لا يدرك بالنعيم، والراحة لا تنال إلا على جسور التعب و((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء))، سأل أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشكلاً وجلاً، فقال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ))، فكل سوء عملنا جزينا به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ألست تصيبك اللأواء؟)) قال، بلى، قال: ((فهو ما تجزون به)).
ثامناً: (كفّ النفس عن تذكر المصيبة): لأن من مات لا يعود، وما قضي لا يرد، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: ((لا تستفزوا الدموع بالتذكر)).
تاسعاً: (الابتعاد عن العزلة والانفراد): فإن الوساوس لا تزال تجاذب المنعزل المتفرغ، والشيطان على المنعزل أقدر منه على غيره.
عاشراً: (ترك الجزع والتشكي): فإن المقدر كائن والمقضي حاصل، وقد قال الله تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ))، حكي أن اعرابية دخلت البادية، فسمعت صراخاً في الدار، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان، فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون، وعن ثوابه يرغبون.