التعليم فى عهد محمد على
لنهضه التعليمية التى قادها محمد على
وقد نهض محمد علي بالتعليم الحديث نهضة عظيمة وضعت الأساس لمصر الحديثه ولمثقفيها، متعلميها العصريين من الأفندية [أي غير الأزهريين].. كان عدد طلاب مدرسة الطب البشري 700 طالب، والبيطري 350 طالبا، ومدرسة الفنون والصناعات 600، ومدرسة الهندسة والمعادن 150، وكان مجموع طلاب المدارس الخصوصية أي المتخصصة 4500 طالب.
كما أنه فتح أبواب مصر أمام بعثة من السان سيمونيين قوامها ستون رجلا وامرأة، وحدد لهم برنامجاً يتضمن إنشاء مدرسة للزراعة، الاسهام في بناء القناطر الخيرية، إنشاء شبكة من الترع والرياحات، إدارة مدرسة الهندسة العسكرية، إنشاء نفق في شبرا، عمل تمثال نصفي للوالي، إعداد إحصاء جغرافي، إلقاء محاضرات في الفن والأدب، إقامة حفلات موسيقية.. الخ ولقد كان السان سيمونيين الذين أتوا إلي مصر من مهن مختلفة تستطيع أن تلبي متطلبات هذا البرنامج الطموح: عشرة مهندسين، تسعة اطباء، ثلاثة مهندسين زراعيين وغيرهم من الأدباء والموسيقيين والرسامين والنحاتين.. وقد تعلق هؤلاء الخبراء بمصر ، سحرهم سحرها، ومارسوا كل ما حلموا به من إنشاءات وهوايات، ويسجل رئيس البعثة برتلمي أنفانتان مدي تعلقه بمصر قائلا: إن الشرق الغامض غموض الصحراء.. كلمة ساحرة مليئة بالضياء والغموض، والشرق معناه مصر، مصر الساحرة، أرض فرعون وموسي والنيل.
محمد على يرسل بعثات تعليمية من مصر إلى فرنسا
وأعتمد محمد على من التنورين من رجال الأزهر وتحديث مصر ويقول د/ رفعت السعيد فى جريدة الأهالى 2/2006 م فى هذا الصدد : " فقام حسن العطار بترشيح تلميذه رفاعة الطهطاوى لـ لعزيز مصر [محمد علي باشا] كي يسافر مع ثلاثة مشايخ آخرين ليكونوا هم الأربعة حراساً أو حماة دينيين لحفنة من المبعوثين اأرسلوا إلي باريس لدراسة العلوم الحديثة في مدرسة البوليتيكنيك تحت إشراف عدد من الأساتذة الفرنسيين المرموقين.. سيلفستر دي ساسي، وكوسان دي برسفال، وفرانسواز جومار. والأخير كان عضواً في الأكاديمية الفرنسية، وشارك في الحملة الفرنسية علي مصر، وفي إعداد كتاب وصف مصر. وكما إلتصق رفاعة الطالب الأزهري.. بأستاذه حسن العطار، التصق في باريس بفرانسواز جومار.
.. وقبل أن ينطلق الفتي إلي الاسكندرية ومنها إلي باريس.. جلس أمام حسن العطار ليتلقي منه آخر نصائحه.. وكان من بينها أن يسجل مذكراته أولا بأول.. فشرع حتي وهو في المركب المتجهة إلي فرنسا في تدوين هذه المذكرات التي أسماها فيما بعد تخليص الابريز في تلخيص باريز.
رفاعة الطهطاوي، وهو الذي أتي إلي القاهرة علي مركب في النيل بعد أن باعت أمه كل ما تمتلك من حلي مقابل جنيهين، ترك لورثته أكثر من 700 فدان
ويعود رفاعة من باريس ليعينه الوالي مدرساً في مدرسة طره وكانت مدرسة عسكرية، لكنه وقد أتيحت له مقابلة محمد علي كي يهدي إليه ترجمته لجزء من كتاب ملطبرون، انتهز فرصة هذا اللقاء في أن يقنع الوالي بأمرين كانا بالغي الأثر في مستقبل مصر.. الأول إنشاء صحيفة علي نمط الجرنالات الفرنسية، والثاني الاهتمام بتعليم اللغات الأجنبية، واقتنع الوالي بالأمرين، وجعله رئيسا لتحرير الوقائع المصرية، وناظراً لمدرسة الألسن.
كانت مدرسة الألسن مصنعاً لهذا الجيل. تجول رفاعة بنفسه عبر قري مصر في رحلة نيلية، يدخل الكتاتيب يمتحن التلاميذ، يختار أكثرهم ذكاءً ونجابة ويأخذهم معه. في البداية كان عدد التلاميذ 50 تلميذا ثم ارتفع العدد إلي 150 المدرسة داخلية، ورفاعة مقيم مع تلاميذه ليلا ونهاراً.. فهو معهم باستمرار يناقش، يحاضر، يصحح الترجمات. وربما بدأ الدرس بعد صلاة العشاء ليستمر ثلاث ساعات أو أربعة ثم يبدأ الدرس التالي بعد صلاة الفجر ليستمر ساعات عدة. ألم نقل إنها مصنع..
وينتج هذا الجهد المضني قائمة كبيرة من مثقفين عصريين كانوا البداية..
صالح مجدي يقدم لنا نماذجً منهم مصطفي البياع مترجم كتاب مطالع شموس السير في وقائع كرلوس الثاني عشر وخليفه محمود الذي أصبح رئيس فرع العلوم الاجتماعية والأدبية بقلم الترجمة، وله ترجمات عديدة في التاريخ، كما ترجم تنوير المشرق بعلم المنطق، وإتحاف الملوك الألبا بتقدم الجمعيات في بلاد أوربا ومقدمة كتاب تاريخ الامبراطور شارلكان للمؤرخ الانجليزي روبرتسون وليم الذي إختار له عنوان إتحاف ملوك الزمان بتاريخ الامبراطور شارلكان وصدر في ثلاثة أجزاء. وعبد الله أبو السعود ناظر قلم الترجمة صاحب جريدة وادي النيل ومن مترجماته تاريخ الفلاسفة اليونانيين. وتاريخ مصر القديمة لمريت باشا. أما صالح مجدي وهو واحد من أشهر تلاميذ رفاعة.. وصاحب الكتاب الشهير حلية الزمن في سيرة خادم الوطن رفاعة بك رافع فقد تخصص في ترجمة كتب الرياضيات والفنون الحربية، وإشترك في ترجمة القانون الفرنسي. ويقول عنه علي باشا مبارك في خططه التوفيقية أن تراجم ومؤلفاته بلغت خمسة وستين كتابا، وكتب بيده من الكراريس ما لا يدخل تحت حصر. وسالم باشا سالم كان تلميذاً أيضا لرفاعة وترجم كتباً عديدة في الطب، وكان أشهر أطباء عصره وترجم وسائل الابتهاج إلي الطب الباطني [أربعة مجلدات] وينابيع المحتاج في الطب والعلاج والينابيع الشفائية والمياه المعدنية. وأيضا أشهر المشرعين المصريين آنذاك محمد بك قدري مؤلف مرشد الحيران إلي معرفة أحوال الإنسان والأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية.
ويبقي أن نقول إن عملية الترجمة هذه أثمرت ترجمه ألفي كتاب ]فقط نقارن بين الرقم وبين مشروع ترجمة الألف كتاب الذي إستغرق منا في زماننا الأخير عديداً من السنوات، وتمويلا هائلا.. و.. لم يتم[.
ويبقي أن نتوقف لنتأمل مسألتين هامتين، لأنهما تركتا بصمات فاعلة علي مستقبل المثقف المصري ومقدرته علي خوض غمار معركة الليبرالية.
الأولي هي أن رفاعة اختار تلاميذه من أطفال كتاتيب القري.. أي من أبناء الفلاحين الفقراء، تعلموا، ثم توظفوا، ثم أصبحوا وبشكل سريع جداً موظفين كباراً، ثم وبفضل الراتب السخي وإنعامات ولي النعم أصبحوا أيضاً ملاكاً كباراً. وهكذا كان أبناء هذا الجيل جميعاً.
ولنأخذ مثالا واحداً لعله يكفي ويزيد ابراهيم بك النبراوي، ترقي في الرتب الديوانية إلي أن بلغ رتبة المتمايز، وفي أول أمره أرسله أهله إلي كُتَّاب البلدة فتعلم فيه الخط وبعض القراءة، ثم تعلق بالبيع والشراء وترك الكُتَّاب، وأرسلوه مرة إلي المحروسة (القاهرة) ليبيع بطيخاً فلم تربح تجارته، بل لم يحصل علي رأس المال، فخاف من أهله ولم يرجع، ودخل الأزهر،.. وفي تلك المدة طُلب من الأزهر شبان برغبتهم لتعلم الحكمة (الطب) فرغب في ذلك، وإلتحق بمدرسة أبي زعبل فأقام بها مدة، وترقي إلي رتبة الملازم، ثم تعلقت الإرادة السنية بإرسال جماعة إلي بلاد فرنسا ليتقنوا الحكمة، فانتخب فيمن إنتخب، فنجب في ذلك الفن، وترقي بعد عودته إلي رتبة يوزباشي بوظيفة خوجه (مدرس) بمدرسة الطب.. ولنجابته وحسن درايته في فنه اختاره العزيز محمد علي حكيمباشي لنفسه، وتخصص به، وبلغ رتبة أميرآلاي وكثرت عليه إغداقات العزيز وانتشر ذكره بين الفامليات والأمراء، ولما مات ترك ألفا وسبعمائة فدان.
وهؤلاء التلاميذ جميعاً تولوا وظائف هامه في الإدارة الحديثة التي نسجها محمد علي وورثها عنه خلفاؤه..
ونطالع بعضاً من أسماء .. عبد الجليل بك وهو الآن بالمعيه، وهو أول من يشار إليه في التحريرات الافرنجية بالبنان ويثني عليه رؤساؤه بكل لسان.. وأحمد بك عبيد وهو الآن وكيل مجلس التجارة بالمحروسة. ويورد علي مبارك ذات الاسمين قائلا وسبب نعمتهما السيد رفاعة بك فإنه أدخلهم المكاتب أول إنشائها ثم أدخلهم المدارس فتربوا فيها.
والاسماء عديدة:
- عثمان باشا فوزي وكيل إدارة كريمة الوالي محمد علي.
- عبد الله بك السيد رئيس مجلس التجار بمدينة الإسكندرية.
- محمد بك قدري الأوحد بمعية أكبر أنجال ولي النعم.
جريدة الوقائع العربية
وعندما صدرت الوقائع المصرية كانت تطبع بلغتين ]العربية والتركية[ نسخة واحدة بلغتين. وكان محمد علي قد أمر أن تحتل الكتابة التركية يمين الصفحات.. واللغة العربية يسارها. وبهدوء شديد صحح رفاعة الوضع، العربية يميناً والأخري يساراً. ويستمر الحال كذلك عاماً وبعض عام، ثم يسعي الوشاه إلي ولي النعم ويستدعي رفاعة غاضباً.. ويعتصم رفاعة من غضب محمد علي الهائج بالدين.. فالعربية لغة القرآن الكريم. ويهدأ غضب الوالي، وإن كان قد أمر بإعادة الوضع إلي ما كان عليه.