16- ومن آداب الطعام ، الأكل جالساً : عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، نَأْكُلُ وَنَحْنُ نَمْشِي ، وَنَشْرَبُ وَنَحْنُ قِيَامٌ " [ أخرجه ابن ماجة وهو حديث صحيح ] .
وقَالَ ابْنَ عُمَرَ : " قَدْ كُنَّا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَشْرَبُ قِيَامًا ، وَنَأْكُلُ وَنَحْنُ نَسْعَى " [ أخرجه أحمد وصحح إسناده الشيخ / أحمد شاكر في تحقيقه على المسند 4 / 325 ] .
الأحاديث دلت على أن هيئة الجلوس للطعام فضيلة مهمة ، وفي الأحاديث دلالة على جواز الأكل ماشياً وقائماً .
قال أبو الوليد الباجي في المنتقى : " لا خلاف في جواز أكل القائم ، وروي جواز ذلك عن عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين ـ وهو قول العلماء " [ 9 / 338 ] .
قال ابن مفلح رحمه الله : " فأما الأكل قائماً فيحتمل أنه كالشرب لقول أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ : " نَهَى أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ قَائِمًا " ، قَالَ قَتَادَةُ : فَقُلْنَا : فَالْأَكْلُ ؟ فَقَالَ : " ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ " [ أخرجه مسلم ] ، ويحتمل أنه لا يكره ، لتخصيص الشارع النهي بالشرب ، لسرعة نفوذه إلى أسافل البدن بلا تدرج ، وإلى المعدة فيبردها ، وعدم استقراره فيها حتى يقسمه الكبد على الأعضاء ، بخلاف الأكل في ذلك ، فدل على الفرق " [ الآداب الشرعية 3 / 306 ] .
فالأكل قائماً جائز لا سيما إذا دعت الحاجة إليه ، لكن أفضل منه الأكل جالساً ، لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، بل اليوم من رآه الناس يأكل وهو يمشي انتقصوه وعابوا عليه ، ولا شك أن ذلك صحيح ، ويعد من خوارم المروءة ، لأن هناك من العلماء من يرى كراهة الأكل قائماً ، قياساً على الشرب ، والكراهة هنا كراهة تحريم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سئل عن الأكل والشرب قائماً هل هو حلال ؟ أم حرام ؟ أم مكروه كراهة تنزيه ؟ فقال : " أما مع العذر فلا بأس ، وأما مع عدم الحاجة فيكره " [ مجموع الفتاوى 32 / 211 ] .
فالصحيح أن الأكل قائماً مكروه كراهة تنزيه ، فأنت تترفع عن أن يشار إليك بسوء أدب ، وفقد الحياء ، لا سيما وأن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الأكل جالساً .
فائدة مهمة :
وعَنْ ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى وَجْهِهِ " [ أخرجه أبو داود وصححه الألباني ، وأخرجه ابن ماجة واللفظ له ، لكن سند ابن ماجة فيه مقال ] .
ولفظ أبي داود ، قَالَ : " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطْعَمَيْنِ : عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ ، وَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى بَطْنِهِ " .
في الحديثين تحريم الجلوس على مائدة فيها منكر ومحرم ، لأن الجلوس عليها دليل على الرضى بما حرم الله تعالى ، وكذلك تحريم الأكل منبطحاً [ عون المعبود 10 / 178 ] .
فائدة مهمة :
من آداب الطعام كذلك أنه ربما كان للرجل من يصلح له طعامه ، ويقوم على خدمته ، كالخادم مثلاً أو الطباخ الذي يقوم بشؤون الطبخ ، فإذا أتاه خادمة بالطعام فعليه أن يناوله منه شيئاً ، فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله أكلة أو أكلتين ، أو لقمة أو لقمتين ، فإنه ولي حره وعلاجه " ، يعني قام على الطعام وأصلحه وتحمل المشاق في ذلك من حر وتعب ونصب ، وتكلف زائد وجهد وافر ، إذن الخادم قد شق عليه عمل الطعام ، وهو الذي قد جاءه من حره ودخانه ، فمن المكافأة له وقد اشتهاه أن يجلسه معه ، وفي هذا الأمر من التواضع ما يعرفه أهل الصلاح والتقوى ، إضافة إلى مكافأة الخادم على جهده وتعبه أثناء الطبخ والنفخ .
قال النووي رحمه الله تعالى : " في الحديث الحث على مكارم الأخلاق ، والمساواة في الطعام ، لا سيما في حق من صنعه أو حمله ، لأنه ولي حره ودخانه وتعلقت به نفسه ، وشم رائحته ، وهذا كله محمول على الاستحباب [ شرح مسلم ] .
17- من آداب الطعام ، عدم عيب الطعام : فإن لم يعجبه شيء من الطعام فإنه لا يتأفف ولا يتذمر ولا يشير إليه بسوء ، وإنما يتركه فقط كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط ، كان إذا اشتهاه أكله ، وإن لم يشتهه سكت " [ أخرجه مسلم ] ، وللبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً قط ، إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه " .
فالحديث يدل على كراهة عيب الطعام ، وفي عيب الطعام أربعة مفاسد :
المفسدة الأولى : أن الطعام خلقة الله تعالى ، وخلقة الله لا تُعاب ، هذا من جهة الخالق سبحانه وتعالى .
المفسدة الثانية : أن عيب الطعام من حيث الصنعة ، فيه كسر قلب لمن قام بطهيه ، فعيب الطعام من هذه الجهة يدخل على قلب الصانع الحزن والألم لكونه الذي أعده وطهاه وهيأه ، فسد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب ، حتى لا يجد الحزن طريقاً إلى قلب المسلم ، والشريعة تأتي بمثل هذا دائماً .
المفسدة الثالثة : التشبه بالنصارى ، فقد كانوا يعيبون الطعام إذا لم يشتهوه ، ولم يرغبوه ، فقد أخرج أبو داود من حديث قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : إِنَّ مِنَ الطَّعَامِ طَعَامًا أَتَحَرَّجُ مِنْهُ ، فَقَالَ : " لَا يَتَخَلَّجَنَّ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ ضَارَعْتَ فِيهِ النَّصْرَانِيَّة " [ حسنه الألباني في صحيح أبي داود 2 / 445 ] ، ومعنى الحديث : لا يقع في نفسك من الطعام ريبة أو شك فهو نظيف ، فإن فعلت فقد شابهت النصارى في ذلك ، ومعلوم خطورة التشبه بغير المسلمين ، فقد نُهينا عن ذلك . [ عون المعبود 10 / 184 ، الأذكار للنووي 334 ] .
فإن قُدم لك طعام ونفسك لا تريده فلا تظهر ذلك ، بل اكتمه في نفسك .
المفسدة الرابعة : أن ذم الطعام أمام الناس ربما جعلهم يستقذرونه ويتقززون منه ، فالطعام الذي لا يعجبك سيعجب غيرك ، فلا تضره بذلك العيب ، فالطعام ربما يروق لشخص ، ولا يعجب الآخر ، فقد أخرج ابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت و ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ " [ حديث صحيح ، انظر صحيح ابن ماجة 2 / 258 ] .
قال النووي رحمه الله تعالى : " ومن عيب الطعام كقوله : مالح ، قليل الملح ، حامض ، رقيق ، غليظ ، غير ناضج ، ونحو ذلك " [ شرح النووي على مسلم 14 / 252 ] .
وما قاله النووي رحمه الله صحيح لا مراء فيه ، فمن الناس من إذا دعي إلى طعام ولم يعجبه ، بدأ يعيبه ، فيكسر خاطر المضيف أي صاحب الدعوة ، وربما أضر أيضاً بالآخرين فلا يأكلون ، وبعض الناس يأكل حتى ينتفخ من الطعام ثم إذا شبع قال : ملحه قليل ، دسمه كثير ، طبخه ما هو بذاك الطبخ ، لو طبخوه في المطبخ أو المندي الفلاني لكان أفضل ، وأكثر الناس يقع في مثل هذه الأخطاء .
فمن اشتهى طعاماً أكله ، وإذا لم يعجبه تركه ولم يعبه ، لما ذُكر من مفاسد ، فضلاً عن أن ذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
لكن لا باس أن ينبه الرجل زوجته أو ابنته مثلاً إلى ما يرغب من الطعام ، من باب التعليم والتوجيه ، مثل : ضبط الملح ، أو تقليل الزيت أو السمن ، أو زيادة إنضاج اللحم ، أو طبخه بطريقة معينه تناسبها ، ونحو ذلك ، على أن يكون ذلك بعد رفع الطعام ، اجتناباً للوقوع في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم . [ إهداء الديباجة 3 / 420 ] .
فائدة :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَيْفُ اللَّهِ أَخْبَرَهُ ، أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيْمُونَةَ رضي الله عنها وَهِيَ خَالَتُهُ وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَوَجَدَ عِنْدَهَا ضَبًّا مَحْنُوذًا ، قَدْ قَدِمَتْ بِهِ أُخْتُهَا حُفَيْدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مِنْ نَجْدٍ ، فَقَدَّمَتِ الضَّبَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ قَلَّمَا يُقَدِّمُ يَدَهُ لِطَعَامٍ حَتَّى يُحَدَّثَ بِهِ وَيُسَمَّى لَهُ ، فَأَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ إِلَى الضَّبِّ ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ النِّسْوَةِ الْحُضُورِ : أَخْبِرْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدَّمْتُنَّ لَهُ ؟ هُوَ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَنِ الضَّبِّ ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ : أَحَرَامٌ الضَّبُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " لَا ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي ، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ " ، قَالَ خَالِدٌ : فَاجْتَرَرْتُهُ فَأَكَلْتُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَيَّ " .
هذا الحديث ربما يراه بعض الناس معارضاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن عيب الطعام ، والصحيح أنه لا تعارض في ذلك ، وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الضب ، ليس من عيب الطعام ، بل هو إخبار عن سبب امتناعه من أكله ، وهو أنه لا يشتهي هذا النوع المعين من الطعام ، وبرر ذلك بأنه لم يكن بأرض قومه ولم يعتد عليه ، فلذلك نفسه لا تقبله وتعافه [ شرح النووي على مسلم 14 / 253 ] .
لأن هناك من أنواع الأطعمة ما لا يوجد في بلد من البلدان ، فلا يستطيع الشخص أن يأكل منه لعدم معرفته به ، فنفسه لا تسيغ أكله ، فيعافه وليس ذلك من باب عيب الطعام أو ذمه على الإطلاق ، وإنما هو من باب الإخبار فقط .
والمتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي ، فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ " ، أنه عليه الصلاة والسلام لم يعب الطعام ، وإنما أخبر أنه لم يكن بأرض قومه ، وهكذا جميع الناس في كل وقت وزمان ، إذا قُدم له طعام لا يعرفه لا يستطيع أن يقدم عليه حتى يسأل عنه ، فإن عرفه أكله ، وإلا تركه وعافه ، ولم تقبله نفسه ، وهذا هدي عظيم منه صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان لا يزدري نعمة الله عليه ، فلولا أن الله تعالى يسر للإنسان الطعام لما استطاع الحياة ، فالذي ينبغي للإنسان أن يشكر الله على النعمة ولا يعيبها .
ولهذا قال بعض العلماء : إن الطعام لا يصل إلى الإنسان ، ويُقدم إليه إلا وقد سبق ذلك نحو مائة نعمة من الله لهذا الطعام ، ولكن أكثر الناس في غفلة عن ذلك ، ولا يدركون نعمة الله عليهم ، فالله عز وجل يسر الطعام من حيث البذر ، ثم ينبت ، ثم يحصد ، ثم يحضر إليه ، ثم يطحن ، ثم يعجن ، ثم يطبخ ، ثم يقدم إليه ، ثم ييسر الله له الأكل ما تيسر من ذلك الطعام ، كل تلك نعم عظيمة من نعم الله تعالى على عباده ، فيجب على العبد أن يشكر الله تعالى على نعمه ، وألا يكفرها ويجحدها ، فيسلبها بعد ذلك .
فائدة مهمة :
ربما يأتي المرء إلى بيته ولا يجد إلا صنفاً واحداً من الطعام ، فماذا يفعل ؟ أيزبد ويرعد ، ويتوعد ويتهدد ؟ ويضرب ويجلد ؟ وربما يطلق ؟
لا ، لا يفعل هذا ولا ذاك ، بل له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، وقدوة طيبة ، ومثالاً يُحتذى به ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدُمَ ؟ فَقَالُوا : مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ ! فَدَعَا بِهِ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ : " نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ ، نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ " [ أخرجه مسلم ] .
والخل : عبارة عن ماء يوضع فيه التمر حتى يكون حلواً .