فانظروا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يتذمر ، ولم يتغير وجهه عندما لم يجد طعاماً سوى الخل ، فلم يشتم أهله ، ولم يغضب ، ولم يضرب ، ولم يكسر ، ولم يقبح ، ولم يطلق ، بل أثنى على ذلك الطعام ، ومدح أهله أن يكون عندهم شيئاً من الطعام ، فهل حالنا اليوم مع أهلينا مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله ؟ لا أظن ذلك إلا من رحم ربي وعصم ، وقليل ما هم .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى : " وهذا ثناء على الخل بحسب مقتضى الحال الحاضر ، لا تفضيل له على غيره ، كما يظن بعض الجهال " [ زاد المعاد 4 / 201 ] .
فإذا دخل الرجل بيته ولم يجد طعاماً إلا نوعاً واحداً ـ وهذا يندر جداً ـ فكل البيوت اليوم ملئ بأنواع الأطعمة والأشربة ولله الحمد والفض والمنة ، وله الشكر والعرفان ، فأقول : إذا دخل الرجل بيته ولم يجد إلا نوعاً أو نوعين من الطعام ، فلا يكلف أهله فوق طاقتهم ، ولا يعيبهم ، ولا يسبهم ، بل يرضى بما قسم الله له من الطعام ، ويشكر مولاه سبحانه على أن هيأ له هذا النوع من الأكل ، فهناك أسر فقيرة لا تجد كسرة الخبز اليابسة من الفقر والفاقة والجوع وقلة ذات اليد ، فإذا قدم له الطعام حمد الله وأثنى على أهله ومدحهم ، ومدح ذلك الطعام ولم يُعبه ، ولو لم يكن هو المطلوب ، فيقول مثلاً : ما شاء الله تبارك الله ، طعام شهي ، قليل مثله ، وطبخ جيد ، بارك الله في تلك اليد التي قدمته ، وما شابه ذلك من الكلمات التي لا يخسر الإنسان معها ديناراً ولا درهماً ، وإنما هو كلام يرجو به وجه الله تعالى ، كما يرجو منه التوفيق بين وبين زوجه .
وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك درس لأمته في القناعة ، وتهذيب لسلوكهم ، والرضا بما قسم الله لهم من الطعام والشراب .
فائدة مهمة :
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " قوله : ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً : أي مباحاً ، أما الحرام فكان يعيبه ويذمه وينهى عنه " [ فتح الباري 9 / 178 ] .
18- ومن آداب الطعام ، الأكل باليد اليمنى : والحذر من الأكل باليد اليسرى ، وقبل البدء حري بنا أن نستعرض بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، من فعله ، وتقريره ، وقوله ، الدالة على الحث على الأكل باليد اليمنى ، والتحذير من الأكل باليد اليسرى :
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ ـ تمشيط شعره ـ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ " [ أخرجه البخاري ومسلم ] .
وعن حَفْصَةُ رضي الله عنها ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَانَ يَجْعَلُ يَمِينَهُ لِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ ، وَيَجْعَلُ شِمَالَهُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ " [ أخرجه أبو داود ] .
وعن عُمَرَ ابْنَ أَبِي سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " يَا غُلَامُ ! سَمِّ اللَّهَ ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ " [ أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما ] .
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ " [ أخرجه مسلم والترمذي ] .
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ ، فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ ، وَإِذَا شَرِبَ ، فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ " [ أخرجه مسلم والترمذي ] .
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِشِمَالِهِ ، أَوْ يَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ " [ أخرجه مسلم ] .
الأحاديث السابقة دلت على الأمر بالأكل باليمين ، والنهي عن الأكل بالشمال ، لكون اليد اليمنى مفضلة عن اليد اليسرى ، وأن الأكل باليد اليمنى من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن سنته الواجبة التي يثاب فاعلها ، ويأثم تاركها ، فالأكل بها من هدي المرسلين ، ومن اتباع سبيل المؤمنين .
أما الأكل بالشمال فهو منهي عنه ، لأنه من عمل الشيطان ، وقد نُهينا عن اتباع الشيطان ،