14- ومن آداب الطعام ، الجلوس على الأرض أثناء الأكل : لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : مَا أَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ ، وَلَا فِي سُكُرُّجَةٍ ، قَالَ : فَعَلَامَ كَانُوا يَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : عَلَى السُّفَرِ " [ متفق عليه واللفظ لابن ماجة ] .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : " مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ " [ متفق عليه ] .
الخوان : ما يوضع عليه الطعام عند الأكل .
السكرجه : إناء صغير يوضع فيه الطعام القليل ، ويتخذها الأعاجم لتشهيهم في الأكل .
السفرة : الطعام الذي يتخذه المسافر ، وعادة ما يوضع في جلد مستدير .
في الحديثين بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من التواضع ، والتقلل من متاع الحياة الدنيا ، والعزوف عنها ، ومن ذلك أنه كان لا يأكل على خوان ، كما كان يأكل ملوك الأرض في زمانه ، وإنما كان يأكل على الأرض كعادة قومه ، حيث تبسط السفر يوضع عليها الطعام .
لكن لا يفهم أحد أن الأكل على الخوان مكروه ، بل الحديثان دلا على أن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم كان الأكل على الأرض ، لتواضعه صلى الله عليه وسلم ، مع أنه حيزت له الأرض بحذافيرها ، فتركها ورغب فيما عند الله تعالى ، وجاء عند مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قدم له ضب على خوان فلم يأكل منه ، لأنه عافه فلم يرغب فيه ، لو كان غير الضب لأكله ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ مَيْمُونَةَ ، وَعِنْدَهُ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى ، إِذْ قُرِّبَ إِلَيْهِمْ خُوَانٌ عَلَيْهِ لَحْمٌ ، فَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْكُلَ ، قَالَتْ لَهُ مَيْمُونَةُ : إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ ، فَكَفَّ يَدَهُ ، وَقَالَ : " هَذَا لَحْمٌ لَمْ آكُلْهُ قَطُّ " ، وَقَالَ لَهُمْ : " كُلُوا ، فَأَكَلَ مِنْهُ الْفَضْلُ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْمَرْأَةُ ، وَقَالَتْ مَيْمُونَةُ : " لَا آكُلُ مِنْ شَيْءٍ ، إِلَّا شَيْءٌ يَأْكُلُ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ، فدل الحديث كما هو واضح على جواز الأكل على الخوان ، وعدم الكراهية في ذلك ، لكن الأفضل بلا شك هو أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الأكل على الأرض .
فالأكل على الأرض من فعل العرب ، وعلى الخوان فعل الملوك ، وعلى المنديل فعل العجم ، والسنة من ذلك الأكل على الأرض ، وهو فعل الناس حتى هذا اليوم ، ممن تتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن تمسك بعروبته ولم يتنصل من أصله .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " قال شيخنا في شرح الترمذي : تركه الأكل في السكرجه ، إما لكونها لم تكن تصنع عندهم إذ ذاك ، أو استصغاراً لها لأن عادتهم الاجتماع على الأكل ، أو لأنها كانت تعد لوضع الأشياء التي تعين على الهضم ولم يكونوا غالباً يشبعون ، فلم يكن لهم حاجة بالهضم " [ فتح الباري 10 / 659 ] .
ونحن اليوم نسمع عن المقبلات والمشهيات قبل الأكل ، فإذا ذهب أحدهم إلى أحد المطاعم قُدم له قبل المائدة الرئيسة ، أو قبل الطلب الرئيس ، مقبلات وأطعمه تعين على ابتلاع أكبر قدر ممكن من الأكل بعدها ، فتقدم السلطات بأنواعها ، وربما المعجنات ، والبقوليات بأشكالها ، ثم بعد ذلك تتبعها الوجبة الأساسية التي من أجلها دخل ذلك المطعم ، وليست تلك المقبلات والمشهيات في المطاعم فحسب ، بل في بعض البيوتات كذلك ، استقوها من المسلسلات والأفلام التي تعرض على المسلمين في كل يوم وليلة ، وهي عادات دخيلة أساسها الاستعمار الأجنبي الذي منيت به الدول العربية والإسلامية ، حتى أن أكثر الناس يصاب بالتخمة جراء زيادة الأكل ، وسيأتي الحديث عن هذه النقطة في موضوع الأكل حتى الشبع ، والإكثار من المطاعم التي تسبب السمنة والكسل والخمول وكثرة النوم .
15- ومن آداب الطعام ، أن لا يأكل متكئاً : عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ : " لَا آكُلُ وَأَنَا مُتَّكِئٌ " [ أخرجه البخاري ] .
وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْعِيًا يَأْكُلُ تَمْرًا " [ أخرجه مسلم ] .
وعَنْ عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ : " مَا رُئِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مُتَّكِئًا قَطُّ ، وَلَا يَطَأُ عَقِبَهُ رَجُلَانِ " [ أخرجه أبو داود واللفظ له وابن ماجة وأحمد ] .
وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ رضي الله عنه قَالَ : أَهْدَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً ، فَجَثَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ يَأْكُلُ ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَا هَذِهِ الْجِلْسَةُ ؟ فَقَالَ : " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا ، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا " [ أخرجه أبو داود وابن ماجة واللفظ له ، وقال الألباني : سنده صحيح ورجاله كلهم ثقات ، الإرواء 7 / 27 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد " [ أخرجه أبو الشيخ من حديث عائشة ، وأخرجه أحمد ، وعبدالرزاق ، وهو حديث حسن بشواهده 3 / 317 ] .
الأحاديث السابقة تدل على كراهة الأكل متكئاً ، لأنها أكلة الجبابرة والمتكبرين من الناس ، وقد فُسِّرَ الاتكاء بالتربع ، وفسر بالاتكاء على الشيء ، وهو الاعتماد عليه ، وفسر بالاتكاء على الجنب ، والأنواع الثلاثة من الاتكاء ، فأما التربع فهو معين على زيادة الأكل وبالتالي إلى السمنة وزيادة الوزن ، وكلاً من الاتكاء على شيء والتربع كلاهما من جلوس المتكبرين .
وأما الاتكاء على جنب فهو مضر بالآكل ، لأنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي عن هيئته ، ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة ، ويضغط المعدة فلا يستحكم فتحها للغذاء ، وأيضاً فإنها تميل ولا تبقى منتصبة ، فلا يصل إليها الغذاء بسهولة ، وهذه الجلسة أردأ الجلسات للأكل .
وفسر الاتكاء بالاعتماد على الوسائد التي تحت الجالس ، لأنها فعل الجبابرة ومن يريد الإكثار من الطعام .
فالجلوس متكئاً منهي عنه بشتى صوره وأشكاله ، عن إسماعيل الأعور قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل متكئاً ، فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال : انظروا إلى هذا العبد كيف يأكل متكئاً " ، قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال الطحاوي رحمه الله : " فقد يجوز أن يكون هذا هو المعنى الذي من أجله قال : لا أكل متكئاً " ، لأنه فعل الملوك الجبابرة ، وفعل الأعاجم ، فكره ذلك ، ورغب في فعل العرب [ شرح معاني الآثار ] .
والاتكاء يضر من جهة الطب ، لتغير الأعضاء والمعدة عن الوضع الطبيعي ، ولا يصل الغذاء بسهولة .
قال ابن هبيرة : " أكل الرجل متكئاً يدل على استخفافه بنعمة الله فيما قدم بين يديه من رزقه ، وفيما يراه الله من ذلك على ما تناوله ، ويخالف عوائد الناس عند أكلهم الطعام من الجلوس إلى أن يتكئ ، فإن هذا يجمع بين سوء الأدب ، والجهل ، واحتقار النعمة " [ الآداب الشرعية 3 / 318 ] .
أ
ما جلسة السنة فهي الجلوس للأكل متوركاً على ركبتيه ، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى ، تواضعاً لربه عز وجل ، وأدباً بين يديه ، واحتراماً للطعام وللمؤاكِل ، قال ابن القيم رحمه الله : " فهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها ، لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الإنسان منتصباً الانتصاب الطبيعي " [ زاد المعاد 4 / 202 ] .
ومن جلوس السنة أن يجلس كما يجلس في التشهد الأول .
ومن جلوس السنة أن يجلس مقعياً ، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مقعياً يأكل تمراً " [ أخرجه مسلم ] .
ومعنى الإقعاء : أن ينصب قدميه ويجلس على عقبيه ، وإنما جلس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجلسة لئلا يستقر في الجلسة فيأكل أكلاً كثيراً ، فإذا كان غير مطمئن فلن يأكل كثيراً ، هذا هو الغالب .
وربما يأكل الإنسان كثيراً وهو غير مطمئن ، وربما يأكل قليلاً وهو مطمئن ، لكن من أسباب تقليل الأكل ألا يستقر الإنسان في جلسته ، وألا يكون مطمئناً الطمأنينة الكاملة " [ شرح رياض الصالحين 7 / 238 ] .
قال الشيخ / ابن عثيمين رحمه الله : " الحاصل أن عندنا جلستين : الجلسة الأولى : الاتكاء ، وهذه ليست من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكل أنواع الجلوس الباقية جائزة . [ نفس المصدر السابق ] .
وقال ابن حجر رحمه الله : " والمستحب في صفة الجلوس للآكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه ، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى ، واختُلِفَ في علة الكراهة ، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال : " كانوا يكرهون أن يأكلوا اتكاءة مخافة أن تعظم بطونهم " [ فتح الباري 9 / 670 ] .
فالصحيح أن الاتكاء لا يختص بصفة معينة ، بل كل ما عُد اتكاء فهو مكروه ، ومن ذلك الاعتماد على اليد اليسرى عند الأكل أي بوضعها على الأرض ، حتى قال مالك رحمه الله : هو نوع من الاتكاء ، فكل اتكاء أثناء الطعام مكروه [ كتاب الآداب 147 ] .