- ومن آداب الطعام ، الأكل بثلاثة أصابع : فإنه قد ورد في حديث كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَأْكُلُ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ ، وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا " [ أخرجه مسلم ] .
والأصابع الثلاث هي : الوسطى ، والسبابة ، والإبهام .
فالأكل بثلاثة أصابع دليل على الشره والنهم ، وعدم التواضع ، وهذا في الطعام الذي تكفي فيه الأصابع الثلاث ، أما الطعام الذي لا تكفي فيه فلا بأس بالأكل بأكثر من ذلك ، كالأرز مثلاً . [ شرح رياض الصالحين 7 / 243 ] .
وقال التوربشتي : " إنما صار تركها للشيطان ، لأن فيه إضاعة نعمة الله والاستحقار لها من غير ما بأس ، ثم إنه من أخلاق المتكبرين ، والمانع من تناول تلك اللقمة في الغالب هو الكبر ، وذلك من عمل الشيطان " [ كتاب الميسر 3 / 592 ] .
فمن سقط لقمته ، فإن كان ما علق بها تراب أو عود أو ما شابه ذلك ، ويمكن إزالته وغسلها ومن ثَم تناولها فعليه ذلك ، لأنه ربما كانت البركة في اللقمة الساقطة ، وإن كان لا يمكن إزالة ما بها ، أو أنها وقعت في نجاسة وعافتها نفسه ، فلا يتركها للشيطان ، بل يطعمها لحيوان من كلب أو هرة ، أو طير ، وله بذلك أجر عظيم بإذن الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله : " وكان يأكل ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصابعه الثلاث ، وهذا أنفع ما يكون من الأكلات ، فإن الأكل بأصبع أو أصبعين لا يستلذ به الآكل ، ولا يُمريه ، ولا يشبعه إلا بعد طول ، والأكل بالأصابع الخمسة يوجب ازدحام الطعام ، ولا يجد له لذة ولا استمراء ، فأنفع الأكل أكله صلى الله عليه وسلم وأكل من اقتدى بالأصابع الثلاث . [ زاد المعاد 4 / 203 ] .
فائدة مهمة :
قال ابن مفلح : " ينبغي أن ينوي الإنسان بأكله وشربه التقوي على التقوى وطاعة المولى سبحانه وتعالى . [ الآداب الشرعية 3 / 309 ] .
وقال الغزالي : " أن ينوي بأكله أن يتقوى به على طاعة الله تعالى ، ليكون مطيعاً بالأكل ، ولا يقصد التلذذ والتنعم بالأكل " [ إحياء علوم الدين 3 / 6 ] .
الإنسان عندما يأكل ويشرب ، طالباً بذلك الأجر من الله تعالى ، مستعيناً بطعامه وشرابه على طاعة ربه ، من قيام لليل ، وصيام بالنهار ، كان له أجر ذلك الأكل والشرب ، بل حتى عندما يطعم أهله ويسقيهم ، ناوياً بذلك الأجر من الله تعالى وسد حاجتهم ، وكف أيديهم عن الناس ، آجره الله على ذلك ، قال صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " [ متفق عليه ] .
20- ومن آداب الطعام ، استحباب الكلام على الطعام : فمن السنة الكلام على الطعام ، هكذا استدل العلماء ببعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على الطعام ، لأنه كلما أكل وجه ونصح وحث على فعل الخير ، وحذر من فعل الشر ، وزجر عن فعل السيئة ، وهكذا دأبه عليه الصلاة والسلام على الطعام مع أصحابه وأهل بيته ، فلنا فيه أسوة حسنة .
ومن تلك الأدلة على الكلام على الطعام ، حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْأُدُمَ ؟ فَقَالُوا : مَا عِنْدَنَا إِلَّا خَلٌّ ، فَدَعَا بِهِ ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ بِهِ وَيَقُولُ : " نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ ، نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ " [ أخرجه مسلم ] . والشاهد : قوله : فجعل يأكل ويقول ، فهنا دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يأكل ويتكلم .
وحديث سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه ، أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ ، فَقَالَ : " كُلْ بِيَمِينِكَ " ، قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ ، قَالَ : " لَا اسْتَطَعْتَ ، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ " ، قَالَ : فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ " [ أخرجه مسلم ] ، وهذا دليل واضح على حديث النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان يأكل معه .
قال الغزالي : " أن لا يسكتوا على الطعام فإن ذلك من سيرة العجم ، ولكن يتكلمون بالمعروف ويتحدثون بحكايات الصالحين في الأطعمة وغيرها " [ الإحياء 3 / 11 ] .
وقال إسحاق بن إبراهيم : تعشيت مرة أنا وأبو عبدالله وقرابة لنا ، فجعلنا لا نتكلم وهو يأكل ويقول : الحمد لله وبسم الله ، ثم قال : أكل وحمد ، خير من أكل وصمت .
والظاهر أن الإمام أحمد رحمه الله اتبع الأثر في ذلك ، فإن من طريقته وعادته تتبع الأثر . [ الآداب الشرعية 3 / 310 ] .
فعلى العموم ينبغي على الآكلين أن يشغلوا وقتهم أثناء الأكل بما يعود عليهم بالنفع العظيم من اكتساب للحسنات ، ورفع الدرجات ، ومحو السيئات ، وذلك بالكلام الطيب النافع .
21- ومن آداب الطعام ، أذكار ما بعد الأكل : ينبغي للمسلم إذا هيأ الله له طعاماً ، وهيأ له أكله ، ينبغي له بعد أن يفرغ من الطعام أن يشكر الله تعالى على تلك النعمة العظيمة التي حُرمها كثير من الناس ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا " [ أخرجه مسلم والترمذي ] ، ولا ريب أن كل إنسان يريد رضا ربه سبحانه ، ويحذر من مواطن غضبه تعالى ، وهناك أسباب كثيرة لنيل رضا الرب تبارك وتعالى ، ومنها أن الإنسان إذا أكل أو شرب أن يحمد الله تعالى على ما أنعم به عليه من طعام أو شراب ، وليحذر الإنسان من أسباب زوال النعم ، فمن أسبابها الكفر وعدم شكر النعمة ، قال تعالى : " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " [ النحل ] ، ومع أن الله تعالى أغدق على عباده بالنعم صباحاً ومساءً ، إلا أن أكثر الناس جحدوا بآيات الله ، وامتنعوا عن شكره ، فعملوا المنكرات ، وارتكبوا الكبائر ولم يتتبعوا أوامر الله تعالى ، ولم ينزجروا عن نواهيه ، فخيره إلى الناس نازل ، وشرهم إليه صاعد ، قال تعالى : " وقليل من عبادي الشكور " [ سبأ ] ، وقال تعالى : " ولا تجد أكثرهم شاكرين " .
وهناك أذكار غاية في الأهمية ، هي من شكر الله تعالى ، لأن الشكر يزيد النعم ، والجحد بها يذهبها ، فحمد الله تعالى بعد الفراغ من الطعام والشراب ، فيه فضل عظيم ، تفضل الله به على عباده ، وإليك شيئاً مما يقال بعد الفراغ من الطعام والشراب :
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا " [ أخرجه البخاري واللفظ له والترمذي ] ، وعنه رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ ، وَقَالَ مَرَّةً إِذَا رَفَعَ مَائِدَتَهُ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَفَانَا وَأَرْوَانَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مَكْفُورٍ " ، وَقَالَ مَرَّةً : " الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّنَا غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى رَبَّنَا " [ أخرجه البخاري ] .
ومعنى الحديث : أننا لا نستغني عن الله عز وجل ، ولا أحد يكفينا دونه ، فهو سبحانه حسبنا وهو رازقنا ونعم الوكيل .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا ، وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ " [ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجة ، وضعفه الألباني في الكلم الطيب 152 ] .
وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ قَالَ : " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ وَسَقَى ، وَسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجًا " [ أخرجه أبو داود وصححه الألباني رحمه الله ] .
ومعنى الحديث : أن العبد يحمد ربه على ما أنعم به عليه من نعمة الطعام والشراب ، وهيأهما له ، فيحمد ربه على نعمة الطعام والشراب ، ويحمد ربه على أن سوغه أي سهل دخوله إلى الحلق ثم إلى باقي أجزاء الجسد .
يقول الطيبي : " ذُكِرَ هاهنا نعماً أربعاً : الإطعام والسقي والتسويغ وهو تسهيل الدخول في الحلق ، فإنه خلق الأسنان للمضغ ، والريق للبلع ، وجعل المعدة مَقْسَمَاً للطعام ، ولها مخارج ، فالصالح منه ينبعث إلى الكبد ، وغيره يندفع من طريق الأمعاء ، وكل ذلك فضل من الله الكريم ، ونعمة يجب القيام بموجبها من الشكر بالجنان ، والثناء باللسان ، والعمل بالأركان " [ 9 / 2853 ] .
وعلى العبد أن يحمد ربه بعد الأكل والشرب ، أن جعل لهما مخرجاً بعد ذلك ، فمن الطعام والشراب ما يفيض عن حاجة الجسد فيتحول بعمليات كيميائية معقدة إلى مواد نافعة ، وأخرى ضارة ، بحيث لو بقيت دون خروج لأثرت سلباً على حياة العبد ، بل تؤدي إلى الوفاة حتماً ، فعلى العبد أن يحمد ربه أن هيأ لهذا الطعام الباقي مخرجاً وهما السبيلان ، حيث تخرج منهما الفضلة من الطعام والشراب .
يقول الملا علي القاري : " إن الله تعالى جعل للطعام مقاماً في المعدة زماناً ، كي تنقسم مضاره ومنافعه ، فيبقى ما يتعلق باللحم والدم والشحم ، ويندفع باقيه ، وذلك من عجائب مصنوعاته ، ومن كمال فضله ، ولطفه بمخلوقاته ، فتبارك الله أحسن الخالقين " [ مرقاة المفاتيح 8 / 116 ] .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ رَجُلٌ خَدَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قُرِّبَ لَهُ طَعَامٌ يَقُولُ : " بِسْمِ اللَّهِ " ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَعَامِهِ قَالَ : " أَطْعَمْتَ ، وَأَسْقَيْتَ ، وَأَغْنَيْتَ ، وَأَقْنَيْتَ ، وَهَدَيْتَ ، وَاجْتَبَيْتَ ، فَلَكَ الْحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ " [ أخرجه أحمد والنسائي في الكبرى ، وإسناده صحيح . انظر الكلم الطيب 152 ] .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : . . . . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ الطَّعَامَ فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ ، وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ ، وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلِ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ ، وَزِدْنَا مِنْهُ ، لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللبن " [ حديث حسن ، أخرجه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وأخرجه ابن ماجة ، وحسنه الألباني ، وحسنه الأرنؤوط في زاد المعاد 4 / 217 ] .
وبعد أن تلمسنا شيئاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الطعام